الأفعال لا الأقوال تعزز الثقة
ليو رو تسايفي نهاية يناير 2009، حضر رئيس مجلس الدولة الصيني ون جيا باو الاجتماع السنوي التاسع والثلاثين لمنتدى دافوس الاقتصادي العالمي، في سويسرا، وألقى كلمة فيه. وقد اعتبرت أجهزة الإعلام رحلة ون جيا باو إلى دافوس "رحلة تعزيز الثقة".
دروس من الأزمة
تحدث ون جيا باو عن الأزمة المالية العالمية، التي بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية، وأصابت العالم كله بالبرد، وقال إن تلك الأزمة تُعزى إلى عوامل متعددة، أهمها: سياسات الاقتصاد الكلي غير الملائمة لبعض الاقتصادات ونمط تنميتها غير المستدام الذي يتسم بالمدخرات المنخفضة المطولة والاستهلاك العالي؛ التوسع المفرط للمؤسسات المالية في سعي أعمى إلى الربح؛ افتقار المؤسسات المالية ووكالات التصنيف إلى الانضباط الذاتي وما يلي ذلك من تشويه لمعلومات المخاطر وتسعير الأصول؛ فشل المراقبة المالية والتنظيم المالي في مواكبة المبتكرات المالية، الأمر الذي أتاح لمخاطر المشتقات المالية أن تتكون وتنتشر.
وقد اعتبرت أجهزة الإعلام الغربية كلمة السيد ون انتقادا مبطنا للدول الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه كان بمثابة من يلقي درسا على الدول الغربية. ولكن الحقيقة أن كلمة ون جيا باو لم تكن إلا تلخيصا واستعراضا شاملا وعميقا للأزمة.
الأزمة المالية صدمة كبيرة للصين، وقد قال رئيس مجلس الدولة صراحة في كلمته: "إن الأزمة الحالية لها تأثير كبير على الاقتصاد الصيني. نحن نواجه تحديات خطيرة، منها على وجه الخصوص تقلص الطلب الخارجي، الفائض الإنتاجي في بعض القطاعات، ظروف العمل الصعبة للشركات، زيادة البطالة في المناطق الحضرية والكثير من الضغوط التي تقلل النمو الاقتصادي".
على أرض الواقع، تشير أرقام مصلحة الجمارك العامة الصينية إلى أنه في شهر يناير 2009 بلغت قيمة صادرات الصين 45ر90 مليار دولار أمريكي، بانخفاض قدره 5ر17% مقارنة مع نفس الفترة من السنة السابقة، وبلغت قيمة وراداتها 34ر51 مليار دولار أمريكي، بانخفاض قدره 1ر43% مقارنة مع نفس الفترة من السنة السابقة. وفي ذات الشهر تراجع حجم التبادل التجاري للصين مع أكبر ثلاثة شركاء تجاريين لها، وتحديدا أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان، بنسبة تجاوزت عشرة في المائة مقارنة مع نفس الفترة من السنة السابقة. كما انخفض في نفس الشهر مؤشر سعر المنتج (PPI) إلى 3ر3%، وهذا أدنى مستوى له منذ 82 شهرا. إن تراجع الصادرات وإغلاق المؤسسات الإنتاجية يؤدي إلى زيادة عدد العمال الريفيين الذين يفقدون وظائفهم ويزيد صعوبة توظيف الخريجين الجدد.
طالب ون جيا باو في كلمته بأهمية أن "نأخذ من كل عثرة عبرة"، ودعا المعنيين بالاقتصاد في جميع الدول، ومنها الدول الغربية، أن يتعلموا درسا من الأزمة المالية العالمية وأن يسعوا إلى "المعالجة الصائبة للعلاقة بين الادخار والاستهلاك، وبين الأعمال المالية المبتكرة والمراقبة المالية، وبين الاقتصاد الافتراضي والاقتصاد الحقيقي"، للوصول إلى حلول جذرية للأزمة المالية العالمية.
تحفيز الطلب الداخلي
طرحت حكومة الصين حزمة تحفيز للاقتصاد باستثمار أربعة تريليونات يوان (حوالي 585 مليار دولار أمريكي) في مجالات البنية الأساسية، وخصوصا مرافق السكة الحديد والطرق العامة والمطارات وشبكات الكهرباء، وإعادة إعمار المناطق التي خربها زلزال ونتشوان وبناء مشروعات تتعلق بالحياة اليومية للمواطنين في المناطق الريفية. وتهدف الحكومة الصينية من خلال ذلك توسيع الاستهلاك المحلي، على أساس أن الصين التي يبلغ عدد سكانها مليارا وثلاثمائة مليون نسمة لديها سوق كامنة هائلة، وبخاصة في المناطق الريفية التي يقطنها نحو تسعمائة مليون فرد، ومازالت عطشى لكثير من المنتجات.
يرى ون جيا باو أن توسيع الطلب المحلي، وبخاصة الطلب الاستهلاكي، نقطة أساسية لتعزيز نمو اقتصاد الصين، وقال: "نحن نعدل اتجاه سياسة الاقتصاد الكلي في الوقت المناسب، وننفذ بحسم سياسات مالية إيجابية وسياسة نقدية مرنة، وسنطرح عشرة إجراءات لتوسيع الطلب المحلي في وقت قريب، وسنواصل وضع وتنفيذ سلسلة من السياسات بحيث تتشكل في الصين منظومة شاملة كاملة لتعزيز نمو الاقتصاد بسلاسة وبمعدلات مناسبة".
من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الصينية في هذا الاتجاه، تخفيض بعض أنواع الضرائب. إن تعديل أسلوب تحصيل ضريبة القيمة المضافة، وتنفيذ سياسة الضرائب التفضيلية للشركات المتوسطة والصغيرة الحجم وتخفيض ضريبة تعاملات العقارات، وإلغاء أو تعليق تحصيل مائة نوع من الرسوم الإدارية الحكومية، يعفي المؤسسات والمواطنين من نحو خمسمائة مليار يوان سنويا.
وقد بدأت نتائج تخفيض سعر الفائدة وتعزيز السيولة المالية للمؤسسات المصرفية تظهر، ففي شهر يناير 2009، سجلت القروض بالعملة الصينية "رنمينبي" رقما غير مسبوق، إذ بلغت1620 مليار يوان. معنى ذلك أن النظام المالي في الصين يعمل طبيعيا وهذا أمر يراه المحللون مهما للخروج من الأزمة المالية، وربما لهذا السبب تتوقع كثير من أجهزة الإعلام الغربية أن تكون الصين في مقدمة الدول التي تتغلب على الأزمة المالية.
طالب رئيس مجلس الدولة أيضا بإعادة هيكلة وإنهاض القطاعات الهامة في الاقتصاد، وعلى رأسها قطاعات السيارات والحديد والصلب والمعلومات، ومن شأن هذا أن يحفز الاستثمارات في المجلات ذات العلاقة ويحفز الاستهلاك. وفي هذا الصدد فإن قرار الحكومة الصينية بتخفيض ضريبة شراء السيارات، وتنفيذ برنامج وصول الأجهزة الكهربائية المنزلية والسيارات إلى الريف، يساعد في إنهاض سوق السيارات في الصين. وطالب السيد ون بالإسراع في تنفيذ الخطة الوطنية الطويلة والمتوسطة المدى للتطوير العلمي والتكنولوجي ، وبخاصة أكبر 16 مشروعا فيها، وتحقيق اختراق في التكنولوجيا المحورية والتكنولوجيا الشائعة الاستخدام المحورية، لتوفير دعم تكنولوجي للتنمية المستدامة العالية المستوى للاقتصاد الوطني.
وإذا كانت الصين في فترة الركود الاقتصادي تتخذ توسيع الطلب المحلي الوسيلة الرئيسيةلمواجهة الأزمة، فإن المهمة الطويلة المدى لها هي زيادة المحتوى التكنولوجي لمنتجاتها وإعادة هيكلة الصناعات الكثيفة العمالة، وإذا تحسن الوضع الاقتصادي ستحافظ الصين على تفوقها في مجال التصدير والتجارة الخارجية.
يضاف إلى ما سبق، زيادة مبلغ الضمان الأساسي للمعيشة لمنخفضي الدخل في الحضر والريف، رفع رواتب المتقاعدين من الشركات وتعزيز إصلاح النظام الصحي الأساسي الذي سيغطي الحضر والريف، بحيث يتحقق هدف حصول كل فرد على الخدمات الصحية الأساسية خلال ثلاث سنوات. وحسب التقديرات الأولية، سيبلغ إجمالي تمويل الحكومات على المستويات المختلفة لهذا المشروع 850 مليار يوان خلال ثلاث سنوات.
تعزيز التعاون
قبل رحلة ون جيا باو إلى دافوس، هبت على الصين مرة أخرى عاصفة "سعر صرف رنميني"، فقد صرح تيموثي غيتنر، مرشح الرئيس الأمريكي باراك أوباما لمنصب وزير الخزانة، بأن أوباما متأكد من أن الصين تتلاعب بسعر صرف عملتها حاليا. وقد احتجت وزارة التجارة الصينية والبنك المركزي الصيني وغيرهما من المؤسسات المعنية على تلك التصريحات ورفضوها جملة وتفصيلا. في دافوس، وعلى غير ما توقع كثيرون، تجاهل ون جيا باو هذه القضية تماما وقال إن على الصين والولايات المتحدة الأمريكية أن "لا يجرَّح أي منهما الآخر".
كان التعاون ديدن كلمة ون جيا باو في دافوس، فقد قال: "في ظل العولمة الاقتصادية، مصير كل منا مرتبط بالآخر، ولا غنى لأي منا عن الآخر. ولن نستطيع مواجهة الأزمة الفعلية إلا بتعزيز التعاون والجهود المشتركة والمشاركة في السراء والضراء".
تحدث ون جيا باو أيضا عن الدور الذي تلعبه الصين في مواجهة الأزمة المالية العالمية، مؤكدا على أن الصين، كدولة نامية كبيرة، يمكنها من خلال تجويد وإجادة أعمالها أن تعزز الثقة في نمو الاقتصاد العالمي، وتستطيع أن تحد من توسع وتمدد الأزمة المالية العالمية. ويمكن أن تكون زيادة واردات الصين واستثماراتها في الخارج قاطرة لنمو الاقتصاد العالمي، وأن تحقق لغيرها من الدول مزيدا من فرص التنمية والتوظيف