القرآن والحياة
الحمد
لله الذي أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان وجعله طريقاً
إلى الجنان ونجاة من النيران فيا فوز من جعله رفيقاً ليكون له في القبر
مؤنساً وفي القيامة شفيعاً ومن النار مخلصاً وإلى الجنة قائداً ودليلاً.
والصلاة
والسلام على من قام بالقرآن حتى تورمت قدماه حباً له ولمن أنزله وعلى
أصحابه وأتباعه ومن سار على نهجه إلي يوم الدين وبعد : فقد منَّ الله
تعالى على أمة الإسلام بهذا القرآن الذي فيه نبأ ما قبلها، وخبر ما بعدها،
وحكم ما بينها، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن
ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، والذكر الحكيم،
والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا
يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولم تنته
الجن إذ سمعته حتى قالوا: "إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي
إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً"
(الجن: 1-2)، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط
مستقيم
إن هذا الكتاب الذي لم ولن تر عين أعظم منه ولا أجل ولا
أجمع ولا أبلغ ولا أنفع ولا أيسر وأوضح منه لكفيل بأن يلبي نداءات الحياة
في كافة الميادين والنواحي، فلا غنى للأحياء عنه ولا سبيل للعيش الذي
يستحق أن يسمى عيشاً إلا وفق هديه
إن القرآن هو الحياة لو عقل
الناس، فالحياة الحقيقية هي التي تسير وفق منهج القرآن، وبغير منهجه فليس
ثمة حياة وإن رآها الناس كذلك، قال الله تعالى: "أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ
زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (الأنعام:122)، فلا حياة
في غير القرآن كيف وهو الروح فهل حياة بغير روح قال الله تعالى:
"وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ
تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً
نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا" (الشورى: من الآية52).
وحياة بغير روح لا تكون فمتى سلبت الروح ذهبت الحياة
ولقد
وصف القرآن الذين عاشوا على غير هديه بالموتى، مع أنهم يأكلون ويشربون
ويروحون ويغدون قال الله: "إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ
الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي
الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ
بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ" (النمل:80، 81)
ووصف الله أولئك
المعرضين عن القرآن بالعمى قال الله تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ
كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى"
(طـه:124-126)
وكيف لا يكون القرآن حياة وفيه كل ما يطلبه العباد
في معاشهم وما يسعدهم في عادهم، فيه نظام الأسرة ونظام المجتمع ونظام
الحكم ونظام القضاء، فيه شفاء الأمراض وتصح العقيدة وتقويم الفكر وتهذيب
السلوك.
فيه بيان حق الوالد على ولده وحق الولد على والده وحق
الحاكم على المحكومين وحق المحكومين على الحاكم فيه بيان حق الفرد على
المجتمع وحق المجتمع على الأفراد فيه بيان حق الزوجة على زوجها وحق الزوج
على زوجته فيه بيان حق الأخ على أخيه وحق أولى القربى وحق الجار على جاره،
وفوق ذلك كله فيه بيان حق الله على عباده، فهل يا ترى تكون الحياة شيئاً
آخر غير ما ذكر؟
لقد أنزل الله كتابه الكريم لنبيه _صلى الله عليه
وسلم_ من أجل غاية وهدف هو إصلاح الدنيا وتحقيق سعادة الآخرة، وذلك الهدف
قد حوى القرآن في ثناياه ما هو كفيل بتحقيقه من الأحكام والشرائع والعظات
والعبر، قال الله تعالى: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى
عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّماً لِيُنْذِرَ
بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً" (الكهف:1،2)،
قال القرطبي: "أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض"(1) وقد
فصل الله تعالى فيه كل ما يحتاجه العباد قال الله تعالى:" وَكُلَّ شَيْءٍ
فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً" (الإسراء: من الآية12)، ولقد أنزل الله الكتب
السابقة على أنبيائه لهذا الهدف وتلكم الغاية، فلم ينزلها الله تعالى من
أجل التذهيب والتقبيل ونحو ذلك بل أنزلها ليحي العباد على هديها قال الله
تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا
مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ"
(الحديد: من الآية25)، وقال الله تعالى:"وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ
بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ" (المائدة:46)، وقال الله تعالى: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً
وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ" (البقرة: من الآية213).
وغير هذه الآيات
من القرآن كثير تدل على أن القرآن والكتب السماوية قبله وإن كانت البركة
فيها والتعبد بمدارسة القرآن لأمة محمد _صلى الله عليه وسلم_ وبالكتب
السابقة لتلك الأمم من أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى إلا أن الهدف
والغاية الأساسية من هذه الكتب الشريفة ضبط حياة الناس وفق منهج الله
تعالى وإصلاح الأرض بمنهج السماء، ولو فهم المشركون على عهد النبي _صلى
الله عليه وسلم_ أن ما يلزمهم من القرآن فقط مجرد القراءة لما حاربوا
النبي _صلى الله عليه وسلم_ وخاضوا معه تلك المعارك الدامية ولكنهم فهموا
أن المراد بالدعوة الإسلامية تحكيم القرآن في سائر الشؤون الخاصة والعامة،
والرب الحكيم العليم الذي اتصف بتلكم الصفات العلى، وتسمى بالأسماء الحسنى
يستحيل عليه أن ينزل كتابه مبيناً للأحكام مفصلاً لأدق تفاصيل الحياة من
ثم لا يكون له غاية سوى أن يتلوه الناس ويرددوا آياته.
وقد أوضح
الله أن استهداء الخلق بما أنزل من كتب هي الغاية التي من أجلها أنزل تلك
الكتب قال الله تعالى:"نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ، مِنْ
قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ "(آل عمران: 3،4)، ولما
أنزل الله آدم عليه السلام إلى الأرض بين له أن هدىً منه تعالى سينزل عليه
وعلى ذريته، وعاقبة من اتبع ذلك الهدى وعاقبة من خالفه، فقال:"قَالَ
اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا
يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" (طـه:123،124)، ولقد بين الله
سبحانه وتعالى أن السابقين لو أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم لسعدوا في
الدنيا والآخرة قال الله تعالى:"وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ
وَالْإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ"(المائدة:66)، وقال الله تعالى
في شأن هذه الأمة: "وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ
لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً،وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ
لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً، وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً"
(النساء:66إلى68)، فالحياة الحقيقية إنما تكمن في تطبيق ما أنزل الله